الجمعة، 8 سبتمبر 2017

السينما و رمزية الزمن : أندري تاركوفسكي


ليس في إستطاعتنا أن نهمل مفهوم الوجود الزماني في أعمال السينما، ذلك كون أن هذا الأخير ندرك فيه عدة من العناصر و العوامل، التي تربطنا و تجعلنا نأرجح فكرنا مباشرة تجاه ما سميناه برمزية الزمن، إذ أن هذا الزمن المقصود لا وجود فعلي له في واقعنا، و إنما في ذواتنا و أذهاننا، يتلمس خفايا النفس بكيفية لا واعية، يتحقق هذا الوجود الزمني عبر عدة آليات في السينما، و لا يتقنه إلا رواد الشاعرية و الجمالية، الذين يقدمون أعمالهم في صيغ معظمها يميل إلى : الذكرى، اللحظة، الماضي .. فهناك عدة من المخرجين في تاريخ الصورة المتحركة، كان لهم دور و أداء كبير في هذا المجال، أما بالنسبة لي فقد تلمست هذا المفهوم بكل حذافيره، عند مخرج روسي إخترته كمثال و نمودج، يدعى " أندري تاركوفسكي" الذي أعتبره شخصيا من أفضل و أبرع رواد رمزية الزمن السينمائي.

إن الأعمال السينمائية الطويلة التي صنعها هذا المخرج الفذ، تكاد كلها تصب في وجهة واحدة أصفها ب : " الرقص على أنغام الزمن"، فمند فلمه الأول التحفة "طفولة إيفان" الذي أخرجه في سنة 1962، نلاحظ كيف كان هذا الفلم ذو تأثير قوي في زمن الستينات، يخلط بين الحرب و الطفولة ثم يجعل هذان العنصران يطفوان فوق : ذكريات الماضي و الأحلام، كانت هذه هي الإنطلاقة الاولى التي بدأ بها تاركوفسكي في صناعة هذا النوع من السينما، و يمكن أن نقول أن هذا الفلم له مكانة فريدة و إستثنائية في أعمال المخرج و أيضا في تلك الحقبة، و الرائع جدا كون أن هذا الفلم يحمل جانبا من الغرابة، التي تتأطر بدورها في مفهوم الزمن، عبر عنها المخرج بأسلوب تصويري عجيب جدا مثلا : خلفية الشخصيات، زاوية الكاميرا، الأحلام ... فهذا الفلم تصويره الزمني قائم على إسقاط الماضي على الحاضر في شكل : ذكريات و تخيلات، و على كل هذا نجد أن تنوع الطرح موجود أيضا في مسيرة هذا المخرج من ادبيات مختلفة.

و من جهة أخرى لا ننكر صعوبة هذه النماذج من السينمائيات، فهي تميل إلى جوانب قد تكون سريالية بشكل مفرط، و المطلع على أعمال هذا المخرج يتبين له ذلك بصورة واضحة، فهناك فلمان أخرجهما تاركوفسكي في فترتين متباعدتين، الأول يدعى "المرآة" من إنتاج سنة 1975، كان هذا الفلم بمثابة المفاجأة الكبرى في السينما الروسية، فهو من أشهر الأفلام المعقدة و المربكة عند تاركوفسكي، لدرجة أن المخرج بنفسه في كتاب " النحت في الزمن" نقل عدة رسائل تصله من المشاهدين يعبرون عن عجزهم في فهم مغزى القصة، إذ أن البناء الدرامي للفلم غير واضح، و خيوط القصة مجزئة جدا و عناصره متشابكة، بل حتى الشخصيات مشكوك فيها بسبب تكرار ادوارهم في مواقف مختلفة، حيث تاركوفسكي هنا يستعمل دلالة الزمن بطريقة باطنية، حيث رؤى الزمن تصبح في الفلم كإنعكاس في المرآة، فتكرار الزمن و إيحاءاته بين الماضي و الحاضر له وجود قوي في هذا الفلم، بمعنى آخر إنه الزمن المعاكس و تجلياته الغامضة.

أما الفلم الثاني يدعى " نوستالجيا" أخرجه سنة 1983، هذا العمل يعتبر بالنسبة لي ثاني أعقد فلم بعد "المرآة"، و من عنوانه نلاحظ الشعور الزمني المفقود الذي ينسجه أندري، إنه الحنين إلى الماضي البعيد، الزمن الفردوسي في حياته ينعكس في هذا الفلم، عبر مجموعة مغايرة من الأفكار مع حضور كبير للغة الرمزية و شاعرية الزمن، و هذا الفلم يدخل أيضا في نمط مبهم و ملغز، مع تطور بطيء و ثقيل في الأسلوب، فهو يفسر الوجود على أساس الزمن و حركاته، ينسج الشخصيات في مواقف مختلفة في آن واحد، و قد كان هذا الفلم بدوره هدية إلى والدة تاركوفسكي، فهل هو إحساس نوستلوجي حنيني للعالم الأمومي ؟ أضف إلى ذلك أن تاركوفسكي في أعماله بشكل عام، يعالج الزمن بعنصر الموسيقى، و اللقطات الصامتة مع تصوير بساطة الأشياء، و بصفة أخرى هذه الأيقونة السينمائية هي تجسيد لحالة زمنية يملئها الإشتياق و اللهفة تجاه لحظات الماضي، ذلك الزمن الغائر.

في الحقيقة هذا المخرج عند الإطلاع على مسيرته، نجد أنه لم يخرج في حياته سوى سبعة أفلام فقط، و مع ذلك إستطاع تأسيس هيئة سينمائية جديدة، يلعب تاركوفسكي على خلق أوضاع أخرى متباينة للزمن، سميتها ب : "وهم الزمن"، إنها الحالة التي يدرك فيها المشاهد لا معقولية الزمن و خداعه، و قد أدرج أندري في هذا المعنى فلما واحدا، ففي سنة 1972 قام تاركوفسكي بإخراج فلم "سولاريس" ينمي لأدب الخيال العلمي، و هو الفلم الوحيد له الذي ينتمي لهذا المجال، و شخصيا أعتبره أعظم فلم خيالي علمي شاهدته في حياتي، عبر فيه تاركوفسكي عن وهم "كينونة الزمن"، و خلق تساؤلات فلسفية مرتبطة بالزمن، فالوجود في هذا الفلم مبني على حركات الزمن الخادعة، و الجميل جدا أن الامر كله مشكوك فيه من بداية الفلم إلى نهايته، فهناك فضاءات متعددة لأفعال الشخصيات، بين الفضاء الخارجي الي يمثله كوكب سولاريس و كوكب الارض، و السؤال الأكبر الذي يطرحه هذا الفلم : هل الوجود حقيقة أم مجرد إنعكاس زمني لتخيلاتنا العقلية ؟ بكيفية أخرى هذا الفلم هو صياغة للعنة الوهم الزمني و عوالمه المشكوكة.

هناك فلم يدعى " ستالكر" يعود إلى سنة 1979، هذا العمل يحمل إشكاليات كثيرة في محتواه، و يضعك في حيرة حول مضمونه و قصته، أسس تاركوفسكي هنا تحولا كاملا عن طبيعة أفلامه، لقد نسج المخرج في رائعته هذه ما أطلق عليه أنا شخصيا ب : 'الزمن المقدس'، كيف يمكن للسينما أن تكون كطريق إلى الزمن المقدس، إني هنا أقصد بهذا المفهوم : الدين، لقد ملأ تاركوفسكي فلمه هذا يالكثير من الرؤى الدينية و معانيها، يمثلها ثلاث أشخاص : المعلم، الكاتب، الفيزيائي، ثم هناك بحسب وقائع الفلم : المنطقة التي تتحق فيها الأماني، أصوات الشرق .. هذا يذكرنا بمواضيع ميتافيزيقية : الرب، الجنة، اليوم الآخير، الخلاص، و قد يكون من الصعب الربط بين هذين المجالين، إلا أن الفلم يعبر عن هذه الرابطة بصيغة خفية، فهذا العمل هو عملية نسج بين الزمن المقدس (الدين) و الزمن الدنيوي، من خلال إشارات و دلالات إيمانية، ثم إنه من الممكن أن يحتاج المشاهد إلى معرفة دينية مسبقة لأجل إدراكها.

نأتي الآن إلى آخر مفهوم زمني موجود عند تاركوفسكي، عبره عنه في آخر حياته و محطاته العملية في السينما، من جهتي ألقبه ب : "صراع الزمن"، تلك اللحظة التي يلتقي فيها الإنسان و الزمن وجها لوجه، و هذا ما يمثله فلم " التضحية" الذي أخرجه في سنة 1986، و هي نفس السنة التي توفي فيها، هنا في هذا العمل نلاحظ حالة غريبة لابد من ذكرها، فهذا رجل يدعى "أليكساندر" يمر بتجربة غامضة، يلمح فيها أن هناك حرب عالمية ستقع مستقبلا، ثم يدخل في حالة من الهلوسات العجيبة و الإنفعالات المستمرة، هذا الرجل يمثل المحرك الرئيسي لكل الأحداث، و يتيمزالفلم بالسرد الطويل، و يشتمل على وجهتين : العالم الداخلي ( حياة الإنسان) و العالم الخارجي ( الفضاء الزمني)، كلاهما يسيران في منعطف يمثله مجموعة من التضاربات، جذير بالتذكير أن هذا الفلم كان هدية إلى إبنه أندريوشا، و يحمل ومضات نفسية و أبعاد روحية، بصيغة أخرى هذا الفلم هو بمثابة سقوط من منظومة الزمن وسط حالة من التناقضات و الصراعات.

بعد هذا العرض الشامل نسبيا لأهم أعمال تاركوفسكي، نجد أنفسنا في الصدد القول أن مفهوم الزمن عند هذا المخرج، يتجلى في عدة أشكال و تنويعات، يعتمده كمرتكز للتعبير عن الماهية و الغائية، في دائرة من العلامات و الرمزيات، يضعها في سمات عدة أشياء، مع التأكيد على أن الفترات الزمنية التي عايشها تاركوفسكي في حياته و علاقاته، نرى ان لها نصيب في أعماله، فالمخرج تاركوفسكي بحق يعد من كبار مؤسسي السينما الرمزية، و لا يخفي تأثيره على عديد من المخرجين، و ككلمة شاملة حول السينما التاركوفسكية، هناك مفاهيم نجدها في كل أعماله : الحلم و الخيال، رمزية الزمن، جمالية الصورة، السرد الغريب، و لابد من الإشارة إلى أن كل هذه المفاهيم، دائما تأتي في صياغة ذات بنية غير سليمة، و سريالية جد مطلقة، مما يبين أن أعمال تاركوفسكي موجهة لقلة من المشاهدين و ليس لجمهور كامل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق