"الصمت" هو الجزء الثالث من سلسلة الأفلام السويدية "صمت الرب"
للمخرج 'إنجمار برغمان'، أنتج سنة 1963 ينتمي لأخيولة الدراما، يعتبر هذا الجزء الأخير
نقطة نهاية لهذه السلسلة الوجودية، خاصة أن هذا الجزء جاء مغايرا و مختلفا عن الأجزاء
السابقة، من حيث المحتوى و طبيعة الأحداث.
يشعر المرء أثناء مشاهدة أفلام برغمان أنه أمام مخرج متمكن، له إخراج خاص و أفكار منفردة، فمن خلال أعماله السينمائية ندرك أن لها عمقا وجوديا، إننا حينما نأتي لفلم "الصمت" نلمح إلى حالة من الإنفصال عن الجزئين الآخرين، ذلك كون أن هذا الفلم لم يأتي هادفا للطرح الديني و القضايا الإيمانية، بل الفلم كله عبارة عن تجسيد لرعب نفسي و خوف ذاتي، يتمثل في شخصيات و أجواء تحمل طابعا سوداويا، نقاشات حادة و مشاعر مختلطة، فالمخرج صاغ قصة حول أفكار ذات بعد سلوكي أخلاقي أكثر من ديني.
تتمحور قصة الفلم حول ثلاث شخصيات : الأم 'آنا' و إبنها 'يوهان' ثم الخالة ' إستر'، بينما هم مسافرون في القطار إلى أحد البلاد، يتوقفون في فندق غير معروف إسمه, من أجل أخذ قسط من الراحة و التخلص من التعب، داخل غرفة مطلة على شوارع المدينة، من هذه النقطة يشرع المخرج في تصوير العلاقة المعقدة بين هاتين الأختين، ذلك أن حياتهما في هذا الفندق ستكون بمثابة عبور من منعطف مظلم، ف 'إستر' هي إمرأة متعلمة تقوم بترجمة عدة كتب أجنبية، تعاني من مشكلة مرضية، تعتمد في حياتها على مبادىء و قواعد اخلاقية تسير عليها.
أما الأم 'آنا' فهي مختلفة عن أختها، حيث أنها ترفض أفكارها و تعتنق فكرا تحرريا، هذا الإختلاف الحاصل فكريا بينهما هو من سيحدد علاقتهما، و منه تبنى الأحداث و المواقف، داخل سلسلة من التعقيدات و الحورات المربكة، إن هذه الصورة القصيرة التي قمت بصياغتها عن قصة الفلم، تمثل مرتكزا قويا في معرفة الحبكة و الغاية، ذلك لكونه -الفلم- يتضمن مجموعة من المفاهيم الأخلاقية، بالإضافة إلى إستعراضات جنسية، كان لها دور كبير جدا في تطور الوقائع.
لقد إعتمد برغمان على عدة من المواضيع : الجنس، الأخلاق، الألم، الحزن .. ثم عالجها بناءا على كل حدث، فالخالة 'إستر' ترفض ما يسمى بالعلاقة الجنسية، و تحمل تجاهها نوعا من النفور، ثم في نفس الوقت نرى أنها حزينة و متألمة، أما الأم 'آنا' لا يتمثل عندها السلوك الأخلاقي إلا في حالة الندم و فوات الأوان، لقد سحرها الجنس مند تلك الرؤية في المسرح، التي رأت فيها رجل و إمرأة يمارسان مع بعضهما البعض في حالة من المتعة و السمو الوجداني، فلقد أبرع برغمان حقيقة في تصوير السلوك الجنسي بكل جمالية.
نبصر من خلال مسار الحبكة، أنه مند لحظة مكوث 'آنا' و 'إستر' في الغرفة نهاية بإنفصالهما شيئا واحدا هو : أن الحزن يبقى مستمرا، خاصة عند شخصية 'إستر'، التي أبهرتني بحق و جذبت إنتباهي، تمثل دورا مهما في خلق أجواء الفلم، تجعلك كمشاهد مستغربا و حائرا في سلوكاتها، و لا ننسى شخصية 'آنا'، فبالرغم من أفعالها و تصرفاتها، إلا أنها تبطن في داخلها نوعا من الصراع و البغض، فالعلاقة بين هاتين المرأتين بمثابة فلسفة ثنوية، تنعكس في عالمهما الخارجي، كتعبير مؤلم حول ما يكنانه لبعضهما البعض.
لم أشاهد قط فلما من قبل يعطي لنا فكرة معبرة عن : العلاقات المعقدة التي يملئها الحوار المخيف, الكلام المفزع و الفراغ الأبدي، مثل هذا الفلم التحفة الذي لن يتكرر في السينما، له مكانة خاصة عندي، لقد سحرني شخصيا لدرجة انني أحيانا أحسست بالعجز عن الكتابة عنه، و في كل كلمة أو جملة أكتبها عنه أشعر بالتوقف و التردد، بسبب شاعريته المظلمة و لحظاته الصامتة و قوته السينمائية ، لقد ختم برغمان سلسلة 'صمت الرب' بجزء يملئه ظلام دامس، كان بمثابة المفاجئة الكبرى للمتابعين، لم يكن متوقعا بالنسبة لهم أو بالنسبة لي على الأقل.
تقييمي : 4/4
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق